{[['']]}
مقدمة الرسالة إلى فيلبى
(فيلبي1:1-30)
لقد كان يوماً خطير الشأن في تاريخ الأرساليات المسيحية، ذلك الذي وصل فيه الرسول بولس في رحلته الثانية إلى مدينة "ترواس". وكانت ترواس تقع على الشاطئ الشمالي الغربي من آسيا الصغرى عبر بحر إيجه من بلاد اليونان.
وكان بولـس قـد رأى ذات ليلـة رؤيا ظهر له فيها رجـل من مكدونيـة يقول لـه:
"اعبر إلى مكدونية وأعنا" (أعمال9:16). وللوقت اتخذ بولس الترتيبات للسفر إلى مكدونية ومعه تيموثاوس، وأيضاً لوقا وسيلا.وكانت "نيابوليس" أول بلد أوروبي وطأتها أقدامهم، ثم واصلوا رحلتهم إلى فيلبى التي كانت في ذلك الوقت مستعمرة رومانية يحكمها موظفون رومانيون، ويتمتع سكانها بحقوق المواطنة الرومانية وميزاتها.
وفي يوم الأحد قصد المبشرون بالأنجيل شاطئ النهر حيث اعتادت مجموعة من السيـدات أن يعقـدن اجتماعـا للصـلاة(أعمال13:16) وكانت ليديا بياعـة الأرجوان من مدينـة ثياتيـرا من بين هؤلاء السيـدات.ولما قبلت ليديا رسالـة الأنجيل اصبحت أول من قبلوا المسيح في قارة أوروبا.
ولكن إقامة بولـس في فيلبى لم تكن خاليـة من المتاعب. ذلك أن سيدة كانت بها روح عرافـة (تتنبأ بحوادث مستقبلـة) التقت بخدام الرب وتبعتهم فتـرة من الزمن وهي تصرخ قائلة: "هؤلاء الناس هم عبيد الله العلي الذين ينادون لكـم بطريق الخلاص"(اعمال17:16) ولما لم يرد الرسول بولس ان يقبل شهادة من إنسانبه روح شرير، أمر الروح ان يخرج منها. فاغضب هذا العملمواليها لأنه قد ضاع منهم رجاء مكسبهم، فجرّوا بولس وسيلا إلى السوق وأخذوهما إلى ممثلي روما الذين أمروا بضربهما والقائهما في السجن.
وما حدث لبولس وسيلا في سجن فيلبى معروف للجميع.ذلك أنه عندما كانا يصليان عند منتصف الليل ويسبحان الله، حدثت زلزلة عظيمة بغتة، فانفتحت أبواب السجن، وانفكت قيود المسجونين.وإذ ظن حافظ السجن أن المسجونين قد هربـوا، كـان على وشـك أن يقتـل نفسـه، وحينئـذ أكـد لـه بولـس أن جميـع المسجونين لم يهرب منهم أحد. وعندئذ صاح السجان قائلاً: "ياسيـدي، ماذا ينبغي ان افعل لكي أخلص؟" فجائه الجواب المشهور: "آمن بالرب يسـوع المسيح فتخلص أنت وأهل بيتك" (أعمال31:16) وهكذا عملت نعمة الله على كسب شاهد للمسيح في مدينة فيلبى.
وفـي صباح اليـوم التالـي ألحت السلطـات المحليـة على بولـس وسيـلا أن يغادروا المدينة بأسرع ما يمكن، فرفض بولس أن يفعل هذا، مذكـرا إياهم بأنه قد ضرُب، وهو روماني الجنسية، وأودع السجن دون محاكمة عادلة. وبعد إلحاح متواصل من الولاة، قبل بولس ورفقاؤه أن يغادروا المدينة، ولكنهم قبل أن يفعلوا ذلك قاموا بزيارة ليديا في بيتها (أعمال4:16) وبعد عشر سنين تقريباً من هذا الحادث. كتب بولس الرسول رسالتـه إلى أهل فيلبى. وكان عند كتابة الرسالة سجيناً مرة أخرى. أما مكان سجنه فليس معروفاً على وجه التحديد، ولكن الرأي السائد هو أن رسالــة فيلبى كتبت فـي مدينــة روميــة، وإن يكـن من الممكـن أنهــا كتبـت فــي قيصريــة أو أفسـس أو كورنثوس.
لقد كان أهـل فيلبى قد سمعـوا أن الرسول بولس في السجن، ولذلك أرسلوا لـه هدية (من نقود) أوفدوا "أبفرودتس" لتوصيلها إليه.فلما وصل ابفرودتس وسلم الهدية لبولس قرر البقاء معه ومساعدته في ضيقته. ولكنه مرض اثناء إقامته، واشتدت عليه وطأة المرض وكان على وشك أن يفارق الحياة، ولكن الله كان رحيما به فأعاد إليه صحته. ولما اعتزم العودة إلى فيلبى، أرسل معه بولس رسالة فيلبى هذه شاكراً أهلها حسن صنيعهم.
وتعتبر رسالة فيلبى إحدى رسائل بولس الشخصية، التي تفيض ودا ًومحبة فهي تظهـر بوضوح أن جماعـة المسيحين في فيلبى كان لها مكـان خاص في قلب الرسول. ذلك اننا نكتشف أثناء قراءتها ذلك الرباط الودي القوي الــذي ربط بين قلب الرسول العظيم وقلوب أعضاء هذه الكنيسة التي اسسها بنفسه.
يمكن تلخيص هذا الإصحاح فيما يلي:
1.التحية (عدد1- 2)
2.بولس يمتدح القديسين في فيلبى (3 – 8)
3.بولس يصلي من أجل القديسين(9 – 11)4.
4.سجن بولس يؤول إلى تقدم الأنجيل (12 – 18)
5.انتظارات بولس وآماله (19 – 26)
6.بولس يهيب بالقديسين في فيلبى أن يثبتوا ويصبروا (27-30)
عدد1″بولس وتيموثاس عبدا يسوع المسيح الى جميع القديسين في المسيح يسوع الذين في فيلبى مع أساقفة وشمامسه".
في مطلع هذا الأصحاح الأول من الرسالة اقترن ذكر اسم بولس باسم تيموثاوس، ولكن ليس معنى هذا أن تيموثاوس ساعد بولس في كتابة الرسالــة، بل لأنه كـان مع بولس عندمـا زار فيلبى لأول مـرة وكان معروفا لدى القديسين هناك. كان موجودا مـع الرسول بولـس وهو يخط هذه الرسالة اليهم.
كان بولـس حينئذ متقدما فـي السن (فليمون عدد9)بينمـا كـان تيموثاوس لا يزال في ريعة الصبا. وهكذا حمل الشباب والشيخوخهالنير معا في خدمـة أفضـل السـادة. "إنه اتحـاد الربيع مـع الخريف الحماسة مع الخبرة، الأقدام مع الحكمة، والأمل الجميل والثقة الهادئه الفتية".
وكلاهما (بولس وتيموثاوس) موصوف بأنه عبد للمسيح يسـوع، وكلاهما أحب سيده. فروابط الجلجثه تجمع بينهما لخدمة المخلصإلى الأبد. والرسالة موجهـة إلى القديسين في المسيح يسـوع في فيلبى مع الأساقفه والشماسة. وسنجد، ونحن نقرأ الرسالة، أن كلمة "كل" ترد مرارا في هـذه الرسالـة. ذلك أن اهتمـام الرسول المشبـع بالود كان يشمل كل شعب السيد.
والعبـاره: "إلــى القديسين في المسيـح يسـوع الذين ف فيلبي "تصف مركز المؤمنين المزدوج، فمن ناحية وضعهم الروحي، قد أفرزهم الله في المسيح يسوع. وأما من ناحية موقعهم الجغرافي فهم في مدينة فيلبى – وضعان في ذات الوقت.
ثم يذكر الرسول الأساقفة والشماسة. أما الأساقفة فكانوا الشيوخ أو المشرفين على جماعة المسيحين – أي اولئك الذين كانوا يهتمونبرعاية قطيع الله واقتادوه بمثالهم الطيب.أما الشمامسه فكانوا خداما لكنيسة الذين كانواغالبا يهتمون بشئونها المادية، مثل الناحية المالية وما إليها.
وهكذا كانت جماعة المسيحين تتكون من ثلاث فئات: القديسين والأساقفـه والشمامسة. ولو كان هنـاك كاهن لـذكره بولــس ايضاولكنه ذكر فقط الأساقفه (في صيغة الجمع) والشمامسة في صيغة الجمع أيضا.
وهنا أمامنا صورة جميلـة عن بساطة حياة الجماعـة المسيحيـه في الأيام الأولى من عصر الكنيسه. والقديسون يذكرهم الرسـولأولا، يليهـم مرشديهم الروحيـون، ثم خدامهم الزمنيون.هذا كـل ما هنالك.
عدد2 "نعمة لكم وسلام من الله ابينا والربيسوع المسيح".
في تحية بولـس، التي يتميز بها، نراه يريد للقديسين نعمة وسلاما. أما النعمة فلا تعني تلك التي ينالها الخاطئ عند تجـدده بقـدر ماتعنى النعمة التي يحصل عليهـا دائما عنـد عـرش النعمـة لتساعده وقت الحاجـة (عبرانيين16:4). وكذلك السلام الذي يشتاق أن يراهم متمتعين به ليس هو السلام مع الله الذي سبقوا فحصلوا عليه بقدر ما هو سلام الله الذي ياتي عن طريق الصلاة والشكر(اصحاح6:4).
وكلتا البركتين تأتيان من الله أبينا والرب يسوع المسيح. ليلاحظ القارئ كيف أن الرسول يكرم الأبن كما يكرم الآب (يوحنا23:5). فلا جدال في أنه يعتبر أن المسيح هو الله.
عدد3 "أشكر الهي عندكل ذكرى اياكم"
إن بولس الآن يقدم نشيد شكـر الله، ولكن هذا ليس بالشيئ الجديدعليه فجدران سجن فيلبى قد رددت صـدى تسابيح بولـس وسيـلا في زيارتهما الأولى لتلك المدينة.
ولعل بولس كان سجيناً في روما، وهو يكتب هذه الكلمات، ولكنه مع ذلك مازال يرنم، يرنم في الليل. يا لك من رجل لا يقهر، يا بولس. وكان بولس كلما ذكر أهل فيلبى، يتجدد روح الشكر في قلبه.ذلك أنهم لم يكونوا أولاده في الأيمان فحسب، ولكنهم أيضاً برهنوا على أنهم كنيسة مثالية بطرق كثيرة.
عدد4 "دائماً في كل أدعيتي مقدماًالطلبة لأجل جميعكم بفرح".
لقد كان بولس في كل صلاة يقدم الطلبة من اجل الفيلبيين بفرح. وكانتمسيرته في ان يصلي من اجلهم، لم يكن هذا بالأمر الثقيل على نفسه.
ومن هذا العدد، وكذلك من مواضع كثيرة مماثلة في كتابات بولس،نتعلمأنه كان رجل الصلاة. ولاحاجة بنا إلى البحث عن السبب في أنه كان دائم الأتصال بالله بطريقة عجيبة.
وعندما نذكر مدى رحلاته التبشيريه، وجماهير المسيحيين الذين عرفهم نعجب كيف كان في استطاعته أن يحتفظ باهتمامه الشخصي الوثيق بهـؤلاء جميعاً.
عدد5 "لسبب مشاركتكم في الأنجيل من أو يوم الى الآن".
لقد كان السبب الخاص الذي لأجله قدم الشكر هو مشاركتهم في التبشيـر بالأنجيل "من أول يوم إلى الآن"إن المشاركة هنا قد تشمل المساعدة المالية ولكنها تمتد أيضاً إلى التأييد بالصلاة والتكريس القلبي لنشر الخبر الطيب.
وعندما يذكر الرسول "أول يوم" لا يستطيع المرء إلا أن يتساءل عما إذا كان السجـان مازال علـى قيـد الحيـاة عندما قرأت هذه الرسالـة علناً فـي الأجتماع في فيلبى. فإذا كان السجان قد سمع الرسالة بين السامعين فلا شـك أن ذكر "أول يوم" في مقدمة الرسالة قد ضرب على وتر حساس في قلبه.
عدد6 "واثقا بهذا عينه أن الذي ابتدأ فيكم عمـلاً صالحاً يكمل الى يـوميسوع المسيح".
وعندما يفكر الرسول بولس في البداءة الطيبـة التي ابداها المؤمنون في الحيـاة المسيحية فإنه يعرب عن ثقته في أن الله يكمل العمل الصالح الذي بدأه. وقد يشير "العمل الصالح" هنا إلى خلاصهم، أو إلى مشاركتهم الفعالة في تقدم الإنجيل. وتشير عبارة "يوم يسوع المسيح" إلى وقت مجيئه الثاني ليأخـذ شعبـه إلـى السمـاء.وقـد تشمـل أيضاً كرسـي قضـاء المسيـح، حينمـا تستعرض خدمة المؤمنين أمامه وتنال الجزاء الوفاق.
عدد7 "كما يحق لي أن افتكر هذا من جهة جميعكم لأني حافظكم في قلبي فـي وثقي وفـي المحاماة عن الإنجيل وتثبيته انتم الذين جميعكم شركائي فـيالنعمة".
يشعرالرسول بما يبرر تقديم شكره للفيلبيين .فهو يدخر لهم في قلبه ذكرى دائمة لأخلاصهم في الوقوف بجانبه، سواء اكان في السجن أم في سفر "في المحاماة عن الإنجيل وتثبيته".
وفي احدى الترجمات للكتاب المقدس نقرأ هذا العدد كما يلي: "إنه من الطبيعي بالنسبة لي أن أفكـر فيكم هكذا، لأنـي سواء كنت في السجن أو كنـت أحامي عن الإنجيل، أذكر كيف ان جميعكم شركائي في النعمة المقدسة".
وتشير عبارة "المحاماة عن الإنجيل" إلى خدمة الإجابة على النقاد، بينما تتعلق عبـارة"تثبيت الإنجيـل" بالحرى بتوطيـد الرسالة بقـوة اكثر في قلـوب الذين آمنوا قبلاً إن الإنجيل يقهر أعداءه ويقوي أصدقائه. اما العبـاره أنتم الذين جميعكـم شركائي في النعمة" فتعني شركائي فـي النعمة التي تأتي من الله دون استحقاقنا لها، حتى يمكننا أن نواصل عمل الرب في مواجهة المعارضة العنيفة.
عدد8 "فإن الله شاهد لي كيف اشتاق الى جميعكم في احشاء يسوع لمسيح".
إن ذكرى تعاونهم بأمانة مع الرسول تجعلة يشتاق إلى أن يكون معهم مرة أخرى.وهو يذكر الله شاهداً على مقدار تشوقه إليهم "في احشاء يسوع المسيح".
لقد كانت الأحشاء تعتبر في تلك الأيام على أنها مركز الود والمحبة. وأما في ايامنا هذه فنقول ما أعظم شوقي إليكم "مع المحبة المسحية الحانية".ويبدو إعراب بولس عن المحبة اكثر روعة عندما نذكر أنه ولد يهوديا وأنه كان يكتب لأناس من الأمم. فقد أزالت نعمة الله الكراهية القديمة وأصبح الجميع واحداً في المسيح يسوع.
عدد 9 "وهذا اصليه أن تزداد محبتكم ايضاً اكثر فأكثر في المعرفة وفي كل فهم".
إن الشكر يخلي الآن مكاناً للصلاة. فهل يصلي بولس طالباً لهم الثراءاو الراحة، أو التحرر من الأضطراب؟ كلا، ولكنه يصلي أن تزداد محبتهم اكثر فأكثر في المعرفه والفهم ويبدو، بادئ ذي بدء، أن هذا العدد يصعب فهمه. فماذا يقصد الرسول به؟
يجب أولاً أن نفهم أن الهدف الأول للحياة المسيحية هو أن يحب المؤمن الله وأن يحب الناس كذلك.
ولكن المحبة ليست مسألة مشاعر فقط. ففي خدمتنا الفعالة للسيد لا بدّ لنا أن نستخدم ذكائنا وفهمنا، وإلا ضاعت جهودنا.
ولهذا يصلي بولس ليس فقط حتى يستمر الفيلبيون في إظهار محبتهم المسيحيه بل أيضاً حتى يمارسوا محبتهم هذه بمعرفة وإدراك كاملين.
عدد10 "حتى تميزوا الأمور المتخالفة لكي تكونوا مخلصين وبلا عثرة الى يوم المسيح".
إن المحبة المستنيرة ستمكن المؤمنين من تمييز الأشياء الممتازه.ذلكانه في كل ميادين الحياة هناك أشياء حسنة وأشياء اخرى أفضل منها.
وكثيرا مايكون الحسن عدو الأحسن. وحتى تكون الخدمة فعالة يجب التمييز بين النوعين.
والمحبة المستنيرة تمكنهم ايضاً من تجنب الأمورالمشكوك فيها أوالخطأ الصريح. إن بولس يريدهم ان يكونوا مخلصين، أي خالين من كل زغل وبلا عثرة إلى يوم المسيح. والتعبير"بلا عثرة" لا يعني بلا خطيئة. لأننا جميعاً نخطئ، ولكن الأنسان الذي بلا عثرة هو ذلك الذي يعترف بخطيته ويتركها ويطلب الصفح ممن أساء إليهم، ويعوض عنها كلما كان ذلك ممكناً.
وأما عبارة "إلى يوم المسيح" الواردة في هذا العدد، فمن المحتمل ان تكون مثل عبارة "يوم يسوع المسيح" الواردة في عدد 6. فهي تشير إلى الأختطاف وإلى الحكم على أعمال المؤمن بعد ذلك.
عدد11 "مملوئين من ثمر البر الذي بيسوع المسيح لمجد الله وحمده".
إن آخر طلبة في صلاة الرسول هي أن يمتلئ المسيحيون من ثمر البر أي من الثمر الذي ينتجه البر، أو من كل الفضائل المسيحيه التي تتكون منها حياة البر. وأما صدر هذه الفضائل فهو المسيح يسوع، وهدفها مجد الله وحمده.
وفي شرح هذه الآية قال أحد رجال الكتاب إننا يمكن أن نضعها بهذه الصوره:"آتين في نفس الوقت بحصاد كامل للبر الذي نبلغه في المسيح والذي يؤدي إلى مجد الله وحمده" جاي كينج. أن طلبة بولس هذه تطابق تماماً ماجاء في (أشعياء3:61) حيث يقول النبي: "فيدعون اشجار البر(مملوئين من ثمر البر) غرس الرب (الذي بيسوع المسيح) للتمجيد(لمجد الله وحمده)".
ويقول ستراوس: "إن كلمة (ثمر) مرتبطه ارتباطاً وثيقاً بعلاقتنا بالمسيح وانتظاراته منا. فيتوقع من اغصان الكرمة أن تأتي بثمر.
عدد12 "ثم اريد أن تعلموا أيها الأخوة أن أموري قد آلت أكثر إلى تقدم الأنجيل"
بعد أن انتهى بولس من صلاته أخذ يستعرض بركاته، اي الفوائد التي عادت عليه من السجن. ولذلك يبوّب جوويت هذا الجزء "رّب ضارة نافعة".
يريد الرسول ان يعلم الأخوة أن الأشياء التي حدثت له من محاكمة وسجن قد افضت إلى تقدم الأنجيل،لا إلى تعطيله كما كان متوقعا.وهنا لنا مثال آخر رائع يبين كيف أن الله يتحكم في التدبيرات الشريره للشياطين والناس، ويخرج النصرة من مأساة محتملة، والجمال من الرماد. "للأنسان شره، أما الله فله طريقه".
عدد13 "حتى أن وثقي صارت ظاهرة في المسيح في كل دار الولاية وفي باقي الأماكن أجمع".
يوضح الرسول أولاً أن وثقه صارت ظاهره باعتبار أنها في المسيح. وهو يعني بهذا القول أنه أصبح معروفاً في كل مكان أنه أودع السجن نتيجة شهادته للرب يسوع المسيح، لا لأنه كان مجرماً أو فاعل شر.
إن التعبير "وثقي في المسيح" يعني في الواقع أن "سجني حدث لأجل خاطر المسيح" واصبح السبب الحقيقي لوثقه معروفاً جيداً المعرفه في كل دار الولاية وفي باقي الأماكن اجمع. والكلمة المترجمه "دار الولاية" قد تعني:
1حرس الوالي بأجمعه، أي الجنود الرومان الذين كانوا يحرسون القصر الذي كان يقيم فيه الأمبرطور.
2-دار الولاية بأكملها، وهنا تشمل كل المقيمين فيها.
على أية حال إن بولس يقول إن سجنه قد كان بمثابة شهادة منه لممثلي سلطة الأمبراطورية الرومانيه حيث كان.
ويقول دروري في هذا الصدد: "إن السلسلة ذاتها التي كانت تثبت حول ذراع السجين حسب النظام الروماني اوجبتوجود شخصاً "جندياً" بجانبه، وكان هذا الشخص يسمع كل مايقول بولس، ويروي قصة الألم الصابر لأجل المسيح لكل اولئك الذين قد يقومون في اليوم التالي على خدمة نيرون نفسه.
عدد14 "وأكثر الأخوة وهم واثقون في الرب بوثقي يجترئون أكثر على التكلم بالكلمه بلا خوف".
وهناك نتيجة ثانية طيبه لسجن الرسول، وهي أن غيره من المسيحيين كانوا يتشجعون ويؤدون الشهادة لأجل الرب يسوع بلا خوف أو وجل. إن الأضطهاد في كثير من الأحيان يجعل من المؤمنين الصامتين الكثيري الحياء شجعاناً غير هيابين.
عدد15 "أما قوم فعن حسد وخصام يكرزون بالمسيح وإما قوم فعن مسره".
معنى هذا القول ان الباعث إلى الكرازة بالمسيح لدى بعض القلوب هو الحسد والخصام. ويمكننا أن نقول اليوم إنهم كانوا يبشرون بالمسيح مدفوعين بدافع الحسد والخصام.
ولكن هناك آخرون ذوو بواعث نقية، وهؤلاء كرزوا بالمسيح بنية حسنة وجهد صادق لمساعدة الرسول.
عدد16 "فهؤلاء عن تحزب ينادون بالمسيح لا عن إخلاص ظانين أنهم يضيفون إلى وثقي ضيقاً".
لقد كانت الجماعة الأولى تظن أنها بعملها هذا تجعل سجن بولس اكثر إيلاماً. كانت رسالة هؤلاء حسنة، ولكن الدافع إليها سيئ. يقول توزر في هذا المعنى: "إن طبيعة النشاط الديني يمكن أن تجعل الكثير منه يؤدي لأسباب غير مقبوله مثل الغيرة والطموح والغرور والطمع في المال".
من هذا نرى أنه من الضروري أن نلاحظ الدوافع التي تدفعنا إلى خدمة الرب يسوع. فيجب ألا نقوم بهذه الخدمة بقصد التظاهر، أو بقصد تقدم مذهب ديني معين، أو هزيمه مسيحيين آخرين.
وهنا نجد مثالاً يُعرض على أنه من الضروري أن نمارس محبتنا بمعرفةوفهم كما رأينا في العدد التاسع.
عدد17 "وأولئك عن محبة عالمين أنني موضوع لحماية الأنجيل".
أما الجماعة الأخرى فكان أفرادها يكرزون بالأنجيل بمحبة نقية خالصة عالمين ان الرسول بولس كان عاقداً العزم على حماية الأنجيل.
وفي خدمتهم لم يكن هناك باعث ذاتي أو مذهبي متسم بالقسوة. فلقدعرفوا جيداً أن بولس قد أودع السجن بسبب موقفه الجرئ لأجل إنجيل المسيح ولذلك صمموا على مواصلة العمل أثناء سجنه
عدد18 "فماذا. غير انه على كل وجه سواء كان بعلة أم بحق ينادي بالمسيح وبهذا أنا أفرح، بل سافرح أيضا".
إن بولس الرسول يأبى أن يغتم بسبب البواعث التي تبعث البعض على خدمة المسيح. ذلك أن المسيح يُكرز به بواسطة الجماعتين، وهذا ما يجعله يغتبط ويفرح. يقول وليم كيلي: "تأملوه وهو السجين". ممنوعاً من القيام بالعمل الذي أحبه، وغيره ينتهز الفرصه ليسبب له الحزن والألم، فيبشر بالأنجيل ذاته عن خصام وحسد، ومع ذلك كان قلب بولس يفيض فرحاً وابتهاجاً لدرجة أنه كان يملأ قلوب غيره بهذا الفرح".
عدد19 "لأني أعلم أن هذا يؤول لي الى خلاص بطلبتكم ومؤازرة روح يسوع المسيح".
إنها نظرة مشجعة حقاً، فالرسول يعلم أن مجرى الأحداث كله سيؤدي إلى خلاصه. إن كلمة "خلاص" تؤدي معاني كثيرة مختلفة في العهد الجديد إنها تشير:
أولا-على الخلاص الأبدي من قصاص الخطية، وهو الخلاص الذي يحصل عليه المؤمن حين يضع ثقته في الرب يسوع المسيح.
ثانيا- انها تشير الى الخلاص يوماً فيوماً – من قوة الخطية في حياة المؤمن.
ثالثا- إنها تصف ايضاً خلاص المؤمن في المستقبل من وجود الخطيه حينما يذهب إلى الوطن السماوي.
رابعاً- وهذا المعنى الأخير هو المقصود في هذا العدد (19) فالخلاص هنا لا يعني خلاص نفس الرسول، بل بالحرى تحرره من السجن.
أما الوسيله التي سيستخدمها الله في إطلاق سراحه ستكون صلوات الفيلبيين ومساعدة روح يسوع المسيح. إنه لمن العجيب أن بولس يعلق أهمية كبرى على صلوات جماعة ضعيفة من المؤمنين. إنه يرى فيهم قوة كافية لأحباط أغراض رومية وصد قوتها العظيمة.
ويقصد الرسول بالقول "مؤازرة روح يسوع المسيح" أن قوة الروح القدس التي تمتد بالنيابة عنه - القوة التي يمده بها الروح القدس. إن العباره تشير عموماً إلى الموارد التي لا حد لها التي يقدمها الروح ليمكن المؤمنين من الثبات، على الرغم من الظروف المحيطه بهم.
عدد20 "حسب انتظاري ورجائي اني لا أخزي في شيئ بل بكل مجاهره كما في كل حين كذلك الآن يتعظم المسيح في جسدي سواء كان بحياة ام بموت".
وبما أن الرسول كان يفكر في صلوات المسيحيين ومساعدة الروح القدس أعرب عن شغفه العميق ورجائه الذي لا يخزى ابداً، بل بالحرى أن يكون دائماً شاهداً صريحاً شجاعاً للمسيح.
وأياً كانت الأجراءات القانونية – سواء أدت إلى إطلاق سراحه، أو إلى موته – فإنه لم يكن له أي مطمح سوى تعظيم المسيح في جسده. وكلمة "تعظيم"هنا لا تعني أن المسيح يزداد عظمة، بل تعني جعل الغير يقدرونه أو يحمدونه.
يمكن أن يتعظم المسيح بواسطة اجسادنا في هذه الحياة - "يتعظم بالشفاه التي تشهد له شهادة سعيده، ويتعظم بالأيدي التي تستخدم في خدمته المباركه ويتعظم بالأقدام التي تسعى فقط لأتمام أهدافه المقدسه، ويتعظم بركبنا التي يسعدها أن تجثو في الصلاة لأجل امتداد ملكوته، ويتعظم بالكواهل التي تلتذ بأن تحمل بعضها أثقال بعض" (جاي كينج).
كذلك يمكن أن يتعظم المسيح بأجسادنا في حالة الموت - أي الأجساد التي بليت في خدمة الفادي، الأجساد التي ثقبتها حراب المتوحشين، والتي مزقتها الأحجار، أو التهمتها النيران.
عدد21 "لأن لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح".
هنا نجد في إيجاز فلسفة بولس في الحياة. إنه لم يعش ليجمع المال او لينال الشهره او ليستمتع بملذات الحياة، بل كان هدف حياته أن يحب الرب يسوع ويعبده ويخدمه. إنه أراد أن تكون حياته على غرار حياة المسيح، وأن يحيا المخلّص حياته فيه.
"والموت هو ربح". فالموت هو أن يكون مع المسيح، وأن يكون مثله إلى الأبد. والموت هو خدمة السيد بقلب طاهر وأقدام لا تضل طريقها أبدا.
إننا لا نفكر عادة في الموت على أنه أحد المكاسب التي نحصل عليها.
ومن المحزن أن نقول إنه يبدو أن نظرة العالم اليوم هي "أن الحياة هي الكسب الأرضي والموت هو نهاية الكسب" اما بالنسبة لبولس الرسول فإن الموت لم يكن ذلك الممر المظلم حيث تتلف كل كنوزنا سريعا، بل مكان انتقال مجيد، طريق مغطى يفضي إلى النور الساطع" (جوويت).
عدد22 "ولكن ان كانت الحياة في الجسد هي لي ثمر عمل فماذا اختار لست أدري".
يصعب فهم هذا العدد، ولكن من المحتمل أنه يعني ما يلي: إذا كانت مشيئة الرب أن يعيش بولس فترة أخرى في الجسد، كان معنى هذا أنها فترة عمل مثمر يقوم به لأنه بذلك يستطيع ان يقدم مساعدة أكثر لشعب الرب.ولكنه كان من الصعب عليه ان يقرر الذهاب إلى المخلص الذي احبه أو البقاء في الأرض في خدمة الرب التي كانت ايضا عزيزه عليه. لم يعرف بولس ايهما يختار.
عدد23 "فاني محصور من الأثنين، لي اشتهاء أن انطلق واكون مع المسيح. ذاك افضل جداً".
إن العباره: "فإني محصور من الأثنين"تعني أنه كان مطلوباً منه أن يتخذ قراراً صعباً ويختار بين أمرين محتملين:الذهاب إلى موطنه السماوي أو أن يبقى على ألأرض رسولاً ليسوع المسيح.
لقد كان يشتاق إلى الأنطلاق ليكون مع المسيح، وهذا أفضل جداً. فإذا كان يراعي مصلحته الخاصه فقط كان هذا بلا شك القرار الذي يتخذه.
لاحظ أن بولس لم يؤمن بأية نظرية عن نوم النفس، بل كان يؤمن أن المسيحي يذهب ليكون مع المسيح في اللحظة التي يموت فيها، وأنه يستمتع بها إستمتاعاً واعياً بحضرة الرب يسوع. ما اسخف ان يقال، كما يقول البعض اليوم في واقع الأمر: "لي الحياة هي المسيح، والنوم هو ربح" أو "أن أنطلق وأنام ذاك افضل جداً"إن كلمة"نوم"استعملت في العهد الجديد للأشاره إلى جسد المؤمن وقت الممات (1تسالونيكي14:4) ولم تستعمل قط للأشارة إلى نفسه.
لاحظ أيضا أن الموت يجب ألا يختلط مع مجئ المخلص. ففي ساعة الموت نذهب لنكون مع المسيح، ولكن في وقت الأختطاف هو يأتي إلينا.
عدد24 "ولكن أن ابقى في الجسد الزم من اجلكم"
كان من الألزم ان يعيش بولس على الأرض مدة اطول لأجل خاطر الفيلبيين. إن الأنسان لا يسعه إلا أن يعجب بروح الأيثار هذهالتيعند هذا الرسول الكبير القلب. إنه لا يفكر في راحته الخاصه بل بالأحرى فيما يؤدي إلى اعظم تحقيق لغرض المسيح وإلى خير شعبه.
عدد25 "فإذ أنا واثق بهذا أعلم أني امكث وابقى مع جميعكم لاجل تقدمكم وفرحكم في الأيمان".
ولما كانت هذه الثقه متوفرة لدى بولس- الثقة بأنه مازالت هناك حاجه اليه على الأرض لكي يرشد القديسين ويعزّيهم ويشجعهم-عرف انه لن يُعدمفي هذا الوقت. وكيف يعرف ذلك؟ إننا نعتقد أنه كان يعيش في صلة وثيقه بالرب يسوع بحيث أن الروح القدس استطاع أن يوصل هذه المعرفة إليه"سر الرب لخائفيه"(مزمور14:25) إن اولئك الذين يحيون حياة التعمق مع الله في تأمل هادئ يسمعون اسراراً تطغى عليها زحمة الحياة وصخبها في هذه الأيام، عليك أن تكون قريباً حتى تسمع،ولقد كان بولس قريباً من الله.
وبقاء بولس في الجسد يمكنه من مساعدتهم على زيادة تقدمهم الروحي وفرحهم الذي نالوه عن طريق ثقتهم بالرب يسوع.
عدد26 "لكي يزداد افتخاركم في المسيح يسوع فيّ بواسطة حضوري ايضاً عندكم".
فعن طريق بقائه ليعيش ويخدم فترة اطول على الأرض، تزداد اسباب فرح الفيلبيين في الرب حين يقوم الرسول بزيارتهم مره أخرى. ألا تستطيع أن تتصور كيف أنهم سيطوقونه باذرعهم ويقبلونه ويحمدون الرب بفرح عميق عندما يصل إلى مدينتهم، فيلبى؟ ولعلهم يقولون: "حسناً يا بولس. لقد كنا نصلي لأجلك ولكننا نقول بصدق إننا لم نتوقع أن نراك هنا مرة ثانية.ولكن ما أعظم شكرنا لله لأنه جاء بك إلينا مرة ثانية!"
عدد27 "فقط عيشوا كما يحق لأنجيل المسيح حتى إذا جئت ورايتكم أو كنت غائباً اسمع اموركم انكم تثبتون في روح واحد مجاهدين معاً بنفس واحده لايمان الأنجيل".
وهنا يضيف الرسول بولس تحذيراً فيقول: "فقط عيشوا كما يحق لأنجيل المسيح" وهو يقصد بهذا أسلوب الحياة كلها او حياة المواطن السماوي. فعلى هؤلاء المسيحيين أن يكونوا مواطني السماء المتشبهين بالمسيح، وأن يتصرفوا على هذا الأساس. يجب أن يكون سلوكنا وفق مركزنا ووضعنا.
وإلى هذا التلاؤم بين الحياة والمركز يضيف الرسول رجاء آخر، فيطلب من الفيلبيين الثبات، وبنوع اخص يرغب إليهم، سواء أتى إليهم شخصياً أو بقي غائباً عنهم، أن يسمع عنهم ليعرف أنهم ثابتون بروح واحد، ومجاهدون معاً في اتحاد تام لأيمان الأنجيل، أي الأيمان المسيحي.يواجه المسيحيين عدواً مشتركاً فيجب والحالة هذه ألا يحارب بعضهم بعضاً، بل أن يتحدو ضد العدو المشترك.
عدد28 "غير مخوفين بشئ من المقاومين الأمر الذي هو لهم بينة للهلاك واما لكم فللخلاص وذلك من الله".
كذلك يجب الا يخشى المؤمنون أعداء الأنجيل. وعدم الخوف في مواجهة الأضطهاد له معنيان. المعنى الأول هو أنه علامة على هلاك أولئك الذين يحاربون الأنجيل، والمعنى الثاني أنه علامة خلاص لأولئك الذين يواجهون غضب العدو. ولعل كلمة "خلاص" هنا تعني الخلاص في المستقبل، مشيرة إلى خلاص القديس اخيراً من المحاكمة وخلاص جسده وكذلك روحه ونفسه.
"عدم خوفكم سيكون علامة اكيدة لهم على الهلاك المحدق بهم، ولكنه بالنسبه لكم علامة اكيدة على خلاصكم" (وايماوث).
عدد29 "لأنه قد وهب لكم لأجل المسيح لا أن تؤمنوا به فقط بل أيضاً أن تتألموا لأجله".
وعلى الفيلبيين أن يذكروا أنها ميزة لهم أن يتألموا من أجل المسيح وكذلك أن يؤمنوا به.
كتب الدكتور جون جريفيت يقول:"إنه بينما كان مرة محاطاً بجماعة من الصينيين المعادين، متعرضاً للضرب والأهانة، وضعتيدي على وجهي، ولما رفعتها رأيت أن دمي كان يسيل. عندئذ تملكني إحساس غريب بالغبطه والفرح لأنني حسبت مستأهلاً أن اتألم من أجل اسم سيدي". ألا يعتبر أمراً عجيباً أن ترفع المسيحية الألم إلى هذا المستوى السامي؟ حقاً أنه حتى الأمر التافه يشتعل بنار أبدية حين يكون في شركة مع الله السرمدي. إن الصليب يمجد ويعظم.
عدد30 "إذ لكم الجهاد عينه الذي رأيتموه فيّ والآن تسمعون في".
إن العلاقة بين هذا العدد والعدد السابق تبدو أوضح لو أننا أضفنا الكلمات الآتية: "بما أنكم مشتبكون في".
"إن ميزة التألم من أجل المسيح قد منحت لكم بما أنكم مشتبكون في نفس الصراع الذي رأيتموه فيّ حين كنت في فيلبى، والذي تسمعون إني مازلت قائماً به".
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق